عبدالله بن أسعد اليافعي
ومنهجه التاريخي في كتابه
"مرآة الجنان"
"مرآة الجنان" (1)
علي_صالح_الخُلاقي:
 |
د.علي صالح الخلاقي |
مقدمة
الإمام العلامة عبد الله بن أسعد اليافعي، علم بارز من أشهر علماء عصره(القرن الثامن الهجري)، أصحاب الجمع التأليفي، كتب وألَّف وصنَّف في مجالات شتى من معارف الفكر العربي والإسلامي، وصدرت له عشرات المؤلفات في الأصول والفقه والتاريخ والحديث والتصوف والعربية والشعر(الصوفي) والفلك([i]).
فهو محدث، باحث، مؤرخ، أديب، وشاعر، وشارك مشاركة فعالة في حوادث عصره، وكانت له مكانته الهامة، ووصف بأوصاف كثيرة تدل على عُلُوِّ كعبه في عصره منها: العالم المسلك، العارف بالله، شيخ الحرم، شيخ الحجاز، إمام السالكين، شيخ الصوفية، شيخ الطريقين وإمام الفريقين، عالم الأقطار الحجازية وصوفيها، الشيخ الكبير([ii])
. نزيل البيت العتيق ومجاوره، ومحدثه في عصره ومحاضره، فضيل مكة وفاضلها وعالم الأبطح وعاملها، يُسترشد بعلومه ويُقتَدى ويُستضاء بنوره ويُهتدى([iii]).
وما زال نجم هذا الرجل منذ بزوغه في القرن الثامن الهجري مضيئاً لامعاً، يشع بنوره على مساحات شاسعة من الأزمنة والأمكنة والحقول العلمية والدينية([iv]).
وقبل أن نتعرض لمنهجه التاريخي في مؤلفه (مرآة الجنان ) لا بد أن نعرف شيئاً من جوانب سيرة اليافعي وأبرز ملامح عصره.
نشأة اليافعي وتكوينه
هو الإمام العلامة عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان بن فلاح اليافعي اليمني ثم المكي، الشافعي، له كثير من الكنى([v])
؛ حيث يكنى بأبي محمد، وبأبي عبد الرحمن ولدِه، وبأبي السعادات ، وبأبي السيادة، وبأبي السيادات، ويلقب بعفيف الدين اليافعي.
واليافعي نسبة إلى مسقط رأسه يافع، وهو اسم منطقة وقبيلة تُنسب إلى يافع بن قاول بن زيد بن ناعتة بن شراحيل بن الحارث بن زيد بن يريم ذي رُعين الأكبر. ورغم اختلاف تسلسل وترتيب بعض الأسماء لدى النسابين، زيادة أو نقصاناً؛ إلاَّ أنهم يتفقون في نسب يافع إلى رُعين، وصولاً إلى حِميَر بن سبأ ([vi]).
ويستفاد من النقوش ومن "صفة جزيرة العرب" للهَمَدَاني أن أرض حِميَر الأصل هي سَرْو حِميَر([vii])،
وقلب سَرْو حِميَر هي بلاد يافع وهي تلك الجبال التي تؤلف سناد دلتا وادي أَبيَنْ([viii]).
لا نعرف على وجه الدقة تاريخ مولده، وحتى هو لم يذكر ذلك، ولهذا يتراوح تاريخ مولده ما بين 696هـ و698هـ([ix])
، وعاش طفولته في مسقط رأسه، يافع، القريبة من عدن، في بيت تقوى وصلاح، وعلى الأرجح أن والده كان من أعيان يافع، ويذكر اليافعي صلته بأهل يحيى، وأهل موسى، وأهل عيسى، وهم بطون من يافع بينهم بعض قرابة، وفيهم عز وشرف نفوس، يقول :" أهل موسى أخوالي - والغالب عليهم الكرم والمشيخة وشرف النفوس - وأهل يحيى أخوال بني عمي - والغالب عليهم العز والنجدة، ولا تزال الحرب بينهم وبين أعدائهم، ومن أهل يحيى المذكورين الولي الكبير الفقيه الشهير أبو بكر التغزي الذي كان السلطان الملك المؤيد في طوعه"([x]).
ومنذ صغره كان اليافعي ملازما لبيته، لا يشتغل بما يشتغل به الصبيان من اللعب، وحين لمح أبوه فيه مخايل النجابة والذكاء، ولمس فيه مظاهر الطُّموح، بعث به إلى عدن، وكانت حينها من أهم المراكز العلمية في عصر ازدهار الدولة الرسولية، لاسيما خلال عهد المؤيد الرسولي (696-721هـ)الذي بدأ حكمه مع ولادة اليافعي واستمر خمسة وعشرين عاماً حافظ خلالها على عهد سلفه المظفر( 647-694هـ) الذي كان عصر الفتوة والازدهار للدولة الرسولية، التي أسندت جانباً من مهمة تأمين ثغر عدن إلى حامية من رجال قبيلة يافع الحِمْيَرية التي ارتبط بها مصير عدن – بل آل إليها حكمها- خلال بعض من فترات التاريخ اليمني([xi]).
ولا يُستبعد أن لوالده صلة ما بتلك الحامية المُرتبة في عدن والتي كان معظم أفرادها من بطني: آل كَلَد وآل أحمد اليافعيين. وفي عدن أقبل الصبي النابه على تعلم القرآن بشغف على الفقيه الصالح محمد بن أحمد البصّال المعروف بالذُهيبي، وهو أول من انتفع به وقرأ عليه (التنبيه)([xii]).
وفي سنة 712هـ حج اليافعي وعاد إلى بلاده، وهو متأثر بعلوم الصوفية، فآثر العزلة والسياحة في البراري، ولا يستبعد أنه تنقل خلال السنوات اللاحقة بين عدن وحضرموت، وهناك إشارة – لم نجد ما يؤكدها في المصادر- أنه استقر فترة في مدينة الشحر(حضرموت) للتدريس، وابتنى بها مسجداً ([xiii])،
وأنه زار مصنعة حبان في شبوة([xiv]).
عاد إلى مكة سنة 718هـ، وجاور بها، وحط رحاله، وتزوج من بنات أكابر الحرمين وأئمّتهم وقضاتهم([xv])،
وأقام بها مدة ملازماً لطلب العلم، وظل يتردد بين الحرم المكي الشريف والمدينة المنورة، إلى أن رحل إلى الشام سنة 734هـ، فزار دمشق، والقدس، والخليل، وأقام بها قرابة مئة يوم، ثم قصد الديار المصرية في العام نفسه، كاتماً أمره، وزار مشهد الإمام الشافعي، ومن حل في القَرَافة، وأقام بها في مشهد ذي النون المصري، وحضر مجلس الشيخ حسين الحاكي في الجامع الذي يخطب فيه بظاهر القاهرة، فأفاد منه كثيراً، وطاف على مجالس أهل الوعظ، وسمع من أساطينها، وعند الشيخ عبد الله المنُوفي المالكي بالمدرسة الصالحية بين القصرين، وعند الجَويراوي بسعيد السعداء وكان شيخها، وغيرهم، ثم سافر إلى الوجه البحري من أعمال الديار المصرية، وزار الشيخ محمد بن عبدالله المرشدي في منية (مرشد كهلان)، وبشره الشيخ بأمور يفتح الله بها عليه متفرساً فيه النجابة وعلو الهمة، ثم قصد الوجه القبلي وسافر إلى الصعيد الأعلى([xvi]).
عاد بعد ذلك إلى الحجاز وأقام مجاوراً بالمدينة مشتغلاً بالعلم ، ثم زار اليمن والتقى بشيخه الطواشي، وزار غيره من العلماء والصالحين، ثم عاد إلى مكة المكرمة سنة 738هـ، فألقى عصا الترحال واستقر، ثم عكف على التصنيف في مختلف العلوم والإقراء، وجلس للتحديث والإسماع، حتى توفاه الله في 20 من جمادي الأخرة سنة 768هـ، ودُفن في المعْلاة بمكة المكرمة بجوار الفضيل بن عياض([xvii]).
الهوامش:
[i] - هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، اسماعيل باشا البغدادي، اسطنبول 1951م، أعادت طبعه بالأوفست دار إحياء التراث العربي- بيروت، 1/465-466؛ كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، حاجي خليفة، دار الفكر، بيروت، د. ط، 1994م، ص380-381.
[ii]
- انظر: العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، تقي الدين الفاسي (ت:832هـ)، تحقيق: فؤاد سيد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1985م، 5/104؛ الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، شهاب الدين أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني،(ت: 852هـ)، دار الجبل ، بيروت، 1993م، 2/247؛ اليافعي ومنهجه الصوفي، أ.عبدالناصر سعدي أحمد عبدالله، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 2004م، ص27.
[iii]
- تاريخ ثغر عدن، أبو محمد عبدالله الطيب بن عبدالله أحمد بامخرمة(ت: 947هـ)، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط2، 1991م،2/109.
[iv]
- سلالة عبدالله بن اسعد اليافعي، د.سالم عبدالرب السلفي، مجلة (اليمن)، مركز البحوث والدراسات اليمنية، جامعة عدن، العدد(28) نوفمبر 2008م، ص151. والبحث دراسة رصينة لسلالة اليافعي تترجم للأعلام من الأبناء والأحفاد وأحفاد الأحفاد.
[v]
- انظر: طبقات الشافعية، عبد الرحيم بن الحسن بن علي الأسنوي (ت: 772 هـ) دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1987م.، 2/331، طبقات الشافعية، أبو بكر بن أحمد بن عمر بن محمد تقي الدين ابن قاضي شهبة الدمشقي (ت: 851 هـ) ، أعتنى بتصحيحه وعلق عليه، د. الحافظ عبدالعليم خان، دار الندوة الجديدة، بيروت، د.ط، 1987م،2/246، طبقات الخواص أهل الصدق والإخلاص، تأليف العلامة أبي العباس أحمد بن أحمد بن عبداللطيف الشرجي الزبيدي(ت:893 هـ)، الدار اليمنية للنشر والتوزيع، ط.1، 1986م،ص172. الدرر الكامنة، 2/247.اليافعي ومنهجه الصوفي، ص 27.
[vi]
- تنسب يافع عند ابن الكلبي (ت: 204هـ) إلى يافع بن يريم (ذو رعين، بطن عظيم) بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حِميَر بن سبأ (انظرنسب معد واليمن الكبير، أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، الجزء الثاني، تحقيق: ناجي حسن، عالم الكتب – مكتبة النهضة العربية ، بيروت، ط1، 1988م، ص534-537). وعند الهمداني إلى يافع بن قاول بن زيد بن ناعتة بن شرحبيل بن الحارث بن زيد بن يَرِيم ذي رُعَيْن الأكبر بن سهل بن زيد الجمهور بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس[انظر:الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني، الإكليل، الجزء الثاني، حققه وعلق عليه: محمد بن علي الأكوع، القاهرة، 1966م، ص335-343].
[vii]
- صفة جزيرة العرب، الحسن بن يعقوب الهمداني، تحقيق: محمد بن علي الأكوع، دار اليمامة، 1974م، ص 71.
[viii]
- حِميَر، د.يوسف محمد عبدالله، مقالة في الموسوعة اليمنية، إصدار مؤسسة العفيف الثقافية - صنعاء، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1/ 425. وتقع يافع شمال شرق عدن بين خطي طول 45-46 درجة، وخطي عرض 13-14درجة، ويحدها من الجنوب ساحل البحر، ومن الشمال البيضاء، ومن الشرق لودر(مكيراس)، ومن الغرب الضالع وحالمين. وبشكل عام تمثل الجهة الغربية لمحافظة أبين، والجهة الشمالية الشرقية لمحافظة لحج.
[ix]
- انظر: العقد الثمين،5/104. الدرر الكامنة، 2/248. تاريخ ثغر عدن، 2/109.
[x]
- مرآة الجنان، عبدالله بن اسعد اليافعي، وضع حواشيه: خليل المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت،1997م، 3/234.
[xi]
- انظر: العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية، علي بن الحسن الخزرجي، تحقيق: محمد بن علي الأكوع، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ط2، 1983م، 2/22. الفضل المزيد على بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد، عبدالرحمن بن علي الديبع، تحقيق: د. يوسف شلحد، مركز الدراسات والبحوث اليمني- صنعاء، دار العودة، بيروت،1983م،ص 153. تاريخ ثغر عدن،2/114. بنو رسول وبنو طاهر وعلاقات اليمن الخارجية في عهدهما، د.محمد عبدالعال أحمد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الاسكندرية، 1980م، ص 252-254. العقبة- دراسة تحليلية جغرافية وتاريخية لجانب من مدينة عدن، عبدالله أحمد محيرز، مؤسسة 14 أكتوبر للصحافة والطباعة والنشر-عدن، ص 164. عبدالله بن اسعد اليافعي- شيخ الطريقين، عبدالكريم الحنكي، مجلة اليمن، جامعة عدن، العدد(21) مايو 2005م ، ص78-79.
[xii]
- تاريخ ثغر عدن، بامخرمة، ص142.
[xiii]
- الجامع- جامع شمل المهاجرين المنتسبين إلى اليمن، محمد عبدالقادر بامطرف، دار الهمداني، عدن، ط2، 1984م، 2/319 – أقول: لعل هناك لبس بين اسمه واسم حفيده عبدالرحمن بن عبدالوهاب بن عبدالله بن اسعد (ت: 826هـ) الذي ذكر السخاوي أنه تردد لليمن والشحر للاسترزاق ودخل مصر وناب في الإمامة بالمقام عن عبدالهادي الطبري [الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، شمس الدين محمد بن عبدالرحمن السخاوي(ت: 902هـ)، دار الجيل، بيروت، 4/91].
[xiv]
- ما جادت به الأزمان من أخبار مدينة حبان، السيد محمد عبدالله الحوت المحضار، مطابع التوجيه، صنعاء، ط2، 2008م، ص 130.
[xv]
- مرآة الجنان، 4/189.
[xvi]
- ينظر: طبقات الشافعية، عبد الرحيم بن الحسن بن علي الأسنوي (ت: 772 هـ) دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1987م.، 2/331، العقد الثمين، الفاسي، 5/109.
[xvii]
- العقد الثمين، الفاسي،5/110، طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة،2/248،كشف الظنون، حاجي خليفة، 5/380، تاريخ ثغر عدن، بامخرمة، ص145
|