عبدالله بن أسعد اليافعي
ومنهجه التاريخي في كتابه
"مرآة الجنان"
"مرآة الجنان" (2)
علي_صالح_الخُلاقي:
صفاته ومكانته بين أهل العلم
 |
د.علي صالح الخلاقي |
أثنى عليه معاصروه من أهل العلم وأشادوا بورعه وزهده وصلاحه وتنوع ثقافته واتساع علمه وكثرة مؤلفاته، فقد وصفه معاصرُه السبكي(ت: 771هـ) بقوله ([i]):
"الرجل الصالح، صاحب المصنفات الكثيرة، والنظم الكثير، اجتمعت به في منى سنة 747هـ". وقال عنه الأسنوي وهو من معاصريه (ت: 772 هـ) ([ii]):
"فضيل مكة وفاضلها، وعالم الأباطح وعاملها، كان إماما يسترشد بعلومه ويقتدى، وعلماً يستضاء بنوره ويهتدى ... عكف على التصنيف والإقراء والإسماع، وصنف تصانيف كثيرة في أنواع العلوم، وكان كثير الإيثار والصدقة مع الاحتياج، متواضعاً مع الفقراء مترفعاً على أبناء الدنيا، معرضاً عما في أيديهم ". وقال ابن تَغري بَردي(ت: 874هـ)؛"كان كبير الشأن، كثير العبادة والورع، وافر الصلاح والبركة والإيثار للفقراء، مع الانقباض عن أهل الدولة وعن الالتفات إليهم ألبتَّة، والانكار عليهم بكل ما تصل القدرة إليه، والحطّ على أرباب الوظائف، ولذلك نالته ألسنتهم"([iii]).
ووصفه الفاسي (ت: 832هـ) بقوله([iv]):
"كان عارفاً بالفقه والأصلين والعربية والفرائض والحساب وغير ذلك من فنون العلم، وله نظم كثير ... كثير العبادة والورع، وافر الصلاح والبركة والإيثار للفقراء، والانقباض عن أهل الدنيا مع إنكاره عليهم".
وعلى الرغم مما قيل فيه من معاصريه من الثناء، إلا أنه لم يسلم من التشنيع والغمز من خصومه ومخالفيه في الفكر، وأتُهّم بحب الظهور، بل وكفره البعض، بسبب بيت شعري([v]).
ويظل اليافعي علم من ابرز علماء عصره الذين اتسعت معارفهم وتخصصاتهم وما تزال تتردد أصداء مؤلفاته حتى اليوم([vi])،
ولا يتسع المجال لدراستها جميعها، لكثرتها، ولعل ما يهمنا منها بصفة خاصة مصنفه في التاريخ (مرآة الجنان) الذي يعد من أهم مؤلفاته، وهو موضوع بحثنا هذا المخصص لمنهجه في الكتابة التاريخية.
الكتاب..عنوانه ومصادره
وضع المؤرخ عبدالله بن أسعد اليافعي لكتابه اسم " مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقلُّب أحوال الإنسان، وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان". وهو عنوان مطول جدا، لكنه شبيه بكثير من غيره من مؤلفات القدماء. ومع ذلك فقد كان اختياره لهذا الاسم موفقاً، ونحن نعلم ما تحتويه الجنّة، البستان، ممّا يريح العين ويبهج النفس ويروّح عنها من غبار الحوادث والأيام، ولهذا نجد في هذا الكتاب كل العناصر التي تؤلِّف صورة الجنان، وذلك من خلال صفحاته التي امتلأت بموضوعات شتّى([vii]).
ولم يدعنا المؤرخ عبدالله بن أسعد اليافعي في حيرة من مصادره والمنهج الذي سلكه في تأليف الكتاب والغرض من ذلك، فقد ذكر في مقدمته أنه لخصه واختصره مما ذكره أهل التواريخ والسير أولو الحفظ والاتقان، واعتمد في ذكر مناقب وصفات الرسول الكريم على كتاب الشمائل، وكتاب الجامع للترمذي، وعلى صحيحي البخاري ومسلم. وفي التاريخ على ما قطع به الذهبي في تاريخه، أو أوَّله وصَحَّح، ومُودِعه أشياء من الغرائب والنوادر والظرف والملح ملتقطاً ذلك من نفائس جواهر نوادر الفضلاء، ومعظمها من تاريخ الإمام ابن خلكان،أما في موضوع أعلام اليمن فقد اعتمد على طبقات المؤرخ اليمني ابن سمرة ، ومما أخذه اليافعي على ابن سمرة خلو كتابه من ذكر علماء الصوفية. ولذلك أكثر اليافعي من ذكر أعلام التصوف في اليمن ليسد الثغرة التي لاحظها في تاريخ ابن سمرة([viii]).
ونلاحظ أن اليافعي اعتمد على مصادر متعددة، لم ينقلها حرفيا، بل أوجز، وحذف أو عَدَّل مختصراً في جميع ذلك على الاختصار بين التفريط المخلّ، والإفراط المملّ، محافظاً على لفظ المذكورين في غالب الأوقات حاذفاً للتطويل، وما يكرَهُ المتدين ذكره من الخلاعات"([ix]).
ورغم أن الحقبة التاريخية الطويلة التي تعرض لها اليافعي كانت عامرة بالمؤلفات التاريخية التي تعد مصادر مهمة وكان بإمكانه الرجوع إليها، إلا أنها كما يبدو لم تكن بمتناول يديه، إما للبُعد وإما لاختفائها، أو لأنه أراد الاكتفاء بما اختاره هو من مصادر محددة.
ولم يكتف اليافعي بالمصادر المكتوبة بل حرص على تنوع مصادر وموارد معلوماته من مشاهداته في البلدان التي زارها، على اعتبار ان عنصر المشاهدة وابراز الذات من خلالها واضح للعيان، وقد شغلت الأحداث التي عاصرها حيزا لا باس به من كتابه، حيث دوَّن اليافعي مشاهداته وتقييمه لكثير من أحداث ووقائع زمانه، وكذا ترجم للأعلام والشخصيات التي عاصرها أو عرفها أو عايشها خلال سنيّ حياته، وحرص على تنوع موارده خلال أسفاره، فنقل ما سمعه أو رآه في البلدان التي رحل إليها، وهذا ما يزيد من أهمية الكتاب ومصداقيته، ويجعله مصدراً هاماً من مصادر التاريخ لتك الحقبة الزمنية.
وتعد مؤلفات اليافعي السابقة أيضاً من مصادره الرئيسية التي استفاد منها في تأليف كتابه، وقد أورد اسماءها في مظانها لمن أراد الرجوع إليها لمزيد من الافادة، كما في قوله:" وقد أوضحت ذلك في الشرح الموسوم بمنهل المفهوم المروي من صداء الجهل المذموم في شرح ألسنة العلوم"([x]).
وقوله:" وقد أوضحت رجحان الدليل على هذا في كتاب المرهم في الأصول"([xi]).
وقوله:" وقد أوضحت فساد مذهبهم-أي الرافضة- وما هم عليه من الضلالة والخرافات والمحال في " كتاب المرهم في علم الأصول "([xii]).
أو يذكر أكثر من كتاب من مؤلفاته، كقوله:"وقد ذكرت نبذة من ذلك في كتاب روض الرياحين، وكتاب أطراف السامعين"([xiii]).
أو يكتفي بالقول:"وقد أوضحت ذلك في غير هذا الكتاب"([xiv]).
ويعد كتاب (مرآة الجنان) أهم مؤلف من المؤلفات التي وضعت في القرن الثامن لهذا المؤلف الجليل، وهو الكتاب التاريخي الوحيد من بين مؤلفاته الذي اشتمل على الحوادث والتراجم لجمهرة كبيرة من رجال الفكر الإسلامي بدءاً من السنة الأولى للهجرة النبوية الشريفة، وانتهاءً بحوادث سنة 750هـ ، وقد عاش بعد الانتهاء من تأليفه 18 سنة، لكنه لم يبين سببا لتوقفه عند أحداث تلك السنة وعدم تعرضه لتأريخ السنوات اللاحقة التي عاشها حتى وفاته سنة 768هـ.
لم ينفرد كتاب (مرآة الجنان) بتاريخ خاص لليمن وحدها؛ وإنما عني مؤلفه بالتاريخ العام للعالم العربي والإسلامي، ولكن بالرغم من ذلك كله فقد خص المؤلف فيه اليمن بأكبر قسط من اهتمامه، وبخاصة في التراجم الكثيرة التي قدمها لأعلام اليمن من أول عام للهجرة إلى منتصف القرن الثامن الذي انتهى المؤلف فيه من تأليف الكتاب.
ويضم أيضا قطوفاً من الفقه والحديث ونتفاً من التفسير، وأفانين من نوادر الأدباء من خلال تراجمه، كما ذكر لنا في طياته – أثناء سرده للحوادث- أسماء كتب ومؤلفيها لكي نعود إليها إذا أردنا التوسع والمزيد من الإيضاح، فيكون بذلك قد مهد لنا طريق الاستقصاء والبحث.
أسلوبه في تقديم المادة التاريخية
تمتع اليافعي بدرجة كبيرة من الحس التاريخي والإدراك الواعي لما يقدمه ويعرضه من مادة تاريخية، ويعبر الكتاب عن فكرة التاريخ لديه، الذي يعد رسالة لتدوين منجزات الأمة الإسلامية التي بدأت منذ عصر الرسول ، وانتصار الدعوة الإسلامية، وإرساء أسس الدولة الإسلامية ومروراً بالفتوحات وما شهدته الحضارة الإسلامية من ازدهار، وصولا إلى عصر المؤلف.
استعمل اليافعي في كتابه (مرآة الجنان) أسلوبا تميز بسلاسة اللغة، بحيث يسهل على القارئ فهمها، وتخلو من المحسِّنات البديعيَّة التي يُسْرف بعض الكُتّاب القدامى في استعمالها مثل: السجع والجناس والطباق وغير ذلك، كما تخلو من العيوب اللغوية وغريب الألفاظ، إلا فيما ندر، وحرص على شرح معاني الألفاظ الغريبة إذا ما تعرض لها، كقوله:" المليتين: تصغير ملايتين تثنية ملاءة وهي نوع من الثياب"([xv]).
وقوله:" السفاف: الردي من العطية"([xvi]).
وقد يعلق على بعض المسميات معتمدا على ما سمعه شخصيا، فعند ذكر خروج الحسين بن علي سنة 169هـ، بالمدينة في جمع إلى مكة التقى بمؤيديه بـ"فَخ"، وعن ذلك قال:" هذه اللفظة سمعتها من بعض عوام مكة بالفاء والخاء المعجمة ورأيتها في بعض التواريخ فيها نقطة الجيم وهو اسم مكان على يسار الخارج من مكة للعمرة وهو إلى أدنى الحل أقرب منه إلى مكة([xvii]).
أو يوضح معنى رآه غامضاً، فعند ذكر الزيادة الهائلة بدمشق في شعبان سنة 683هـ قال:" كانت الزيادة الهائلة بدمشق بالليل هكذا هو الزيادة في الأصل الذي وقفت عليه من الذهبي وما يظهر لي معنى صحيح ولعله الزلزلة والله أعلم فخربت البيوت وانطمت الأنهار"([xviii]).
وعمد اليافعي إلى الاستشهاد كثيرا بأبيات من نظمه أو بما يختزن في ذاكرته من الشعر، للتدليل على صحة رواياته أو لإيضاح معنى. وقد أجمع من ترجم له أنه كان شاعراً، يقول الشعر الحسن بغير كلفة([xix])،
وله نظم كثير، دوَّن فيه ديواناً في نحو عشر كراريس كبار"([xx])، وكان غالب شعره في مدح النبي ومدح الأولياء، وفي ذم الدنيا، والحث على الزهد فيها([xxi])،
لكننا نجد أنه يبالغ بالاستشهاد بالشعر أحياناً، ويقحمه في سرد الحوادث. وقد أوضح اليافعي أسلوبه ذلك في أبيات من نظمه قال في مطلعها:
أيا طالباً علم التواريخ لم تشن
بإخلال تفريط وإملال إفراطِ
تلق كتاباً قد أتى متوسطاً
وخيرُ أمور حُلّ منها بأوساطِ
تجلى بأشعار زهت ونوادر
وما لاقَ من إثبات ذكرٍ وإسقاطِ
به تُجتلى الأسماع عند غرائب
ولياً منقى من قشور وأخلاطِ
اتسم أسلوبه بالاختصار والتركيز والابتعاد عن السرد المطول ، مدركا أن الفترة الزمنية الطولية التي تناولها تحتاج لإيجاز وتركيز ، ولكن بما لا يخل بسياق الأحداث، ولا ينتقص من المعلومات الهامة، أذ أن إيجازه في الغالب ينصب على التخلص من الحشو والاستطراد وذكر التفاصيل، وعلى الرغم من أسلوب الايجاز فأن اليافعي فسح المجال لذكر الروايات المختلفة، حول الخبر الواحد، وترك للقارئ فرصة الحكم، ففي أحداث سنة 105هـ، يقول:" وفيها، وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها، وقيل في سنة سبع، وقيل في سنة خمس عشرة توفي عكرمة مولى ابن عباس([xxii]).
وقد يحذف بيتا شعريا كراهية ذكره([xxiii]).
وعلى الرغم أنه نحا نحو أسلوب الإيجاز والاختصار، إلا أنه أفسح المجال للتوسع في بعض المواضيع، كما في سيرة الرسول التي شغلت 56 صفحة، وتشكل كراساً مستقلا، إذ تطلب منه الأمر الاستفاضة في ذكر سيرة الرسول وخصص لها عناوين متعددة، مبرراً ذلك بأن الذهبي لم يتعرض لشيء من شمائله ومحاسنه ، التي ملأت الوجود شهرة، ولم يَرَ أحداً من أهل التواريخ تعرض لذلك([xxiv]).
[i]
- طبقات الشافعية الكبرى، عبدالوهاب بن علي بن عبدالكافي السبكي(ت: 771 هـ)، تحقيق د. محمود محمد الطناحي، وعبدالفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر، ط.2، 1992م، 10/33 .
[ii]
- طبقات الشافعية، الأسنوي 2/331،332 .
[iii]
- المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي(ت: 874 هـ)، حققه ووضع حواشيه: علي محمد معوض وعادل أحمد عبدالموجود و د.عبدالفتاح أبو سنة ، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1995م، 7/76.
[iv]
- العقد الثمين، الفاسي، 5/105 .
[v]
- نفسه، 5/105.
[vi]
- وجد فكر اليافعي وآراؤه قبولا واسعا في الهند ومصر والشام منذ مطلع القرن الماضي، فطبع عددٌ من مؤلفاته، منها (مرآة الجنان) الذي تنبه المؤرخون المحدثون لأهميته وقاموا بنشره عدة مرات، فقد طبع كتاب (مرآة الجنان)لأول مرة في أربعة أجزاء، بحيدر أباد- دكن بالهند 1337هـ. وأعيد نشره بعد طبعة الهند حيث طبع في مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط 2، 1390 هـ/1970م، بطريقة (الأوفست) . ثم صدرت طبعة منه بتحقيق عبد الله الجبوري، مؤسسة الرسالة، بيروت. 1405هـ. وأخيرا الطبعة التي بين يدينا عن دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1997م، وضع حواشيه: خليل المنصور. كما وضع مؤلف مجهول فهرساً لكتاب اليافعي رتبه على حروف المعجم وجعل بجانب الأسماء سني الوفاة تسهيلاً للمراجعة، وهذا (الفهرس المخطوط) توجد نسخة منه في:"المكتبة السعيدية/بتونك في الهند في 42ورقة"، ومنها نسخة مصورة في "معهد المخطوطات العربية في القاهرة برقم 3011 فيلم"، انظر: اليافعي ومنهجه الصوفي، ص38. وذكر خير الدين الزركلي أنه رأى (مختصر تاريخ اليافعي) في خزانة محمد سرور الصبان بجدة، غير كامل، انظر: الأعلام، للزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط 15، 2002م، 2/2409. وليعقوب بن علي البروسوي، أحد علماء الترك(ت: 931هـ) مصنف " مختصر مرآة الجنان لليافعي" الأعلام للزركلي، 8/201.
[vii]
- مرآة الجنان، المقدمة،1/3.
[viii]
- مرآة الجنان،1/7.
[ix]
- نفسه،1/7.
[x]
- نفسه، 1/185.
[xi]
- نفسه، 4/128.
[xii]
- نفسه، 2/133.
[xiii]
- نفسه، 3/376.
[xiv]
- نفسه، 2/20.
[xv]
- نفسه، 1/38.
-[xvi]
نفسه، 1/182.
[xvii]
- نفسه، 1/278.
[xviii]
- نفسه، 4/149.
[xix]
- طبقات الشافعية، الأسنوي ، 2/332 . طبقات الشافعية، أبو بكر بن أحمد بن عمر بن محمد تقي الدين ابن قاضي شهبة الدمشقي (ت: 851 هـ) ، أعتنى بتصحيحه وعلق عليه، د. الحافظ عبدالعليم خان، دار الندوة الجديدة، بيروت، د.ط، 1987م، 2/247 .
[xx]
- العقد الثمين، الفاسي ج5/105.
[xxi]
- طبقات الخواص أهل الصدق والإخلاص، ص174 .
[xxii]
- مرآة الجنان، 1/178.
[xxiii]
- نفسه، 1/186
[xxiv]
- نفسه، 1/ 8-56.
|